قبل سنة تقريباً أخذت مادة Marketing Environment، تتكلم بكل إختصار عن كيفية استخدام نظريات التسويق لحل مشاكل أخلاقية سببها التسويق من الأساس (ethical and moral issues caused by marketing). هذه المادة وغيرها من مقالات علمية كثيرة في التخصص تحاول تحسّن الصورة السلبية عن التسويق والعاملين فيه. في المادة قرأنا أبحاث عن استخدام استراتيجيات تسويقية تحسّن من كفاءة الإعلانات المضادة للتدخين مثلاً، او الإفراط في الاستهلاك في أمريكا وكيفية مواجهة هذه المشكلة، أو كيفية مواجهة التغير المناخي Climate Change وغيرها من المشاكل اللي غالباً تحصل بسبب الرأسمالية وذراعها القوي (التسويق).
..
كل أسبوع كنا نقرأ مجموعة مقالات علمية عن موضوع محدد ونناقش هذه الدراسات لمدة ثلاثة ساعات خلال المحاضرة. في أول الأسابيع كان الموضوع “الرفاهية والسعادة”. مقالات هذا الاسبوع كانت تتكلم عن السعادة من منظور تسويقي (مثلاً “تأثير مشاركة التجارب مع الاشخاص على سعادتك النهائية” أو “كيف السعادة تؤثر على قراراتنا اليومية” أو “كيف التقدم في العمر يسبب تغيّر في نظرتنا للسعادة”).
..
التجارب والأشياء.. أيهم يؤدي إلى سعادة أكبر؟
..
لكن أكثر مقالة شدّت إنتباهي كانت تتكلم عن موضوع مهم.. ايش يوصلنا لسعادة اكبر، شراء التجربة experience أو الماديّات things. البحث ناقش نظرية يدعمها دراسات كثير في علم النفس (ملاحظة جانبية: كثير لما ينقلوا دراسات علمية يقولوا أثبتت الدراسة الفلانية كذا وكذا.. وهذا خطأ فادح.. الدراسات العلمية لا تُثبت .. ولكن تقدم دلائل يعتقد كاتبها انها تشير للحقيقة). المهم، هذه الدراسات تشير إلى وصول الأشخاص لسعادة أكبر عند شراءهم لتجارب (سينما، سفر، .. الخ) من شراءهم للاشياء (سيارة جديدة، جوال جديد.. الخ).
..
السبب حسب هذه الدراسات شيء اسمه Hedonic Treadmill وفكرته بإختصار اننا نتعود على الأشياء بشكل أسرع من تعودنا على التجارب. والمشكلة في التعود انه يقتل قدرتنا على الاستمتاع بهذه الأشياء. والتجارب، عكس الاشياء، ترجع لنا على شكل ذكريات جميلة تسبب سعادة للشخص انه مر بهذه التجربة. (مثال: لما تتذكر اخر سفرة أو طلعة بر احتمالية انك تشعر بسعادة اكبر من لما تتذكر شراءك للايفون ٤ قبل كم سنة).
..
..
عقلك مُصمم على أن يكون سلبي، والحل الوحيد انك “تنسى نفسك”
..
ميهايلي أتعمق أكثر في موضوع التجارب وقدرتها على إعطائنا السعادة. في كتاب بإسم النظرية اللي وصل لها (Flow) أتكلم عن سبب تركيز عقولنا على الأمور السلبية Negativity Bias وكيف العقل يجبرك تركز عليها لانه من اساسيات مهام (الحماية to survive). يعتقد ميهايلي انه هذه الخاصية مهمة جداً وبدونها صعب تنجو في عالم كله مخاطر، ولكن المشكلة انها سبب كذلك في زيادة تعاستك والضغوط النفسية اللي تمر فيها بسبب هذه المشكلة. الحل؟
..
..
لأن قدرتنا على التركيز محدودة، يعتقد ميهايلي انه السبيل الوحيد لتجاوز هذه المشكلة هو انشغال تركيزك في شيء تحبه. وإذا تم استهلاك تركيزك على شيء واحد تحبه، لن يبقى متسع للتركيز في الأمور السلبية. الوقت اللي تركز فيه على شيء تحبه وتنسى نفسك (الوقت يعدي بدون ما تشعر) هي الحالة الأقرب للسعادة حسب تعريف ميهايلي واسمها State of Flow.
..
بقية كتابه اتكلم عن كيفية تصميم تجارب تساعدك توصل لهذه الحالة. هذه التجارب ممكن تكون عمل، رياضة، ألعاب، مناقشة في موضوع تحبه مع شخص يتحدى طريقة تفكيرك، .. الخ.
..
..
في الرسم اللي فوق شرح ميهايلي كيف التجارب ممكن تساعد الشخص انه يمر في حالة الـ Flow. نقطة مهمة ذكرها انه لازم مع مرور الزمن مستوى الصعوبة يزيد ومستوى المهارة كذلك، وإلا الملل من التجربة بيكون حتمي بشكل أكيد.
..
بورجمان: “السعادة التي نحصل عليها بسهولة، هي سعادة فارغة وغير حقيقية”
..
بورجمان في المقابل نظر للسعادة من منظور مختلف تماماً. حاول يحلل تأثير الثقافة الاستهلاكية المصاحبة للرأس مالية في امريكا، وتأثيرها السلبي على السعادة (هنا المقالة). في بحث نشر عام 2000 يقول بورجمان انه ثقافة الاستهلاك في امريكا جعلت الجميع يبحث عن شكل غير حقيقي للسعادة.. سعادة بدون الم وبدون معاناة Puer Pleasure ويقول انها سعادة خاوية بدون طعم لانها غير طبيعية.
..
..
يعتقد بورجمان انه هذه النوعية من السعادة (اللي سهل نحصل عليها وبدون معاناة) مجرد ما ينتهي تأثيرها بشكل سريع نبدأ نبحث عن مصدر سعادة جديد بشكل يائس. عمل مقارنة في مقالته (لغرض التوضيح) بين وجبة عشاء مكونة من بيتزا تم طلبها من محل مأكولات سريعة بدون أي معاناة أو جهد في تحضيرها ووجبة عشاء أتشارك في تحضيرها كل العائلة.. رغم انه الحالة الثانية فيها مجهود أكبر .. إلا انها حسب إعتقاده قدمت للجميع تجربة أكثر عمقاً ولها معنى اكبر من الحالة الأولى.
..
“التكنولوجيا غيّرت التوازن الطبيعي في حياتنا عن طريق فصل المعاناة والمشقّة من المتّع الموجودة حولنا. وخلال ذلك خسرنا الأمور التي كانت تعطي حدود واضحة لشهواتنا ورغباتنا، ونتيجة لذلك اصبحنا مهوسيين بإشباع اهواءنا بشكل مرعب our desires behan to run wild.”
..
IKEA effects
..
هذا المفهوم (مسمى على محل الاثاث ايكيا اللي كل منتجاته العميل يقوم بتركيبها بنفسه وما يستلمها جاهزة) يتكلم عن زيادة تقديرنا للأشياء اللي نشارك في صناعتها وعملها. مثلاً، لو قدمت كرسي جاهز لشخص وقدمت نفس الكرسي بالضبط ولكن غير جاهز وطلبت من نفس الشخص تركيبه.. غالباً القيمة اللي مستعد يدفعها هذا الشخص للكرسي الثاني اللي بذل فيه مجهود اكبر بتكون اعلى. ونسبة رضاه من استهلاك أي منتجات يقوم بتجهيزها بنفسه تكون اعلى من لو تم تقدمها له بشكلها النهائي. الأسباب كثيرة ولكن من أهمها زيادة التقدير للمنتج اللي تعمله بنفسك وزيادة ملاحظة الأشخاص للتفاصيل الصغيرة في المنتج (اللي يطبخ الاكل غالباً يتذوق أشياء اكثر من الآخرين.. نكهات عقله مستعد لها انه يتذوقها) وبالتالي استمتاعه بهذا المنتج يكون اعلى.
..
..
بين كل هذه النظريات والمفاهيم النفسية فيه عامل مشترك: السعادة من التجارب (أو الأشياء) تكون اعلى لما هذه التجارب يكون فيها مجهود اكبر من الشخص مقارنة لما استهلاكها يكون سلبي وبدون أي مجهود يُذكر passive consumption. نقطة ثانية مهمة لها علاقة بوجود جانب سلبي في محاولتنا للسعادة.. غالباً فيه علاقة طردية بين المجهود اللي بذلته للوصول للسعادة reward وكمية السعادة اللي تشعر بها. كل ما كان المجهود اعلى، كل ما كانت السعادة اكبر. نقطة ثالثة واخيرة، قلل من التجارب اللي توعدك بالسعادة بدون أي مجهود يذكر. الاستهلاك السلبي passive consumption يعطينا متعة ميتة.. وغالباً هو مجرد محاولة يائسة اننا نشغل عقولنا عن أمور مهمة ان مشاكل نحاول تجاهلها.