كل مرة تقوم فيها بفتح كتاب لقراءته تعلن فيها بداية حرب غالباً ستخسرها. وتنتهي محاولتك بالفشل وإغلاق الكتاب والعودة لتصفح تويتر، سناب أو غيرها من برامج التواصل الإجتماعي. هذه الحرب التي تخوضها هي ضد عادات أخذت سنوات لتتشكل، وغالباً عقلك سيقاوم أي عادة جديدة قد تأخذ مكان هذه العادات. ما يزيد الأمر صعوبة هو أن القراءة تستهلك طاقتك الذهنية mental energy بينما العقل يفضل العادات السلبية passive habits (العادات التي تشغل تركيزك ولا يحصل فيها تفكير وتحليل عميق مثل مشاهدة التلفاز أو تصفح تويتر – تحدث عنها بشكل جميل كتاب Flow).
كيف نحل هذه المشكلة؟
غالباً المقالات (وحتى الكتب) التي تناقش مشكلة الإدمان على مواقع التواصل، يكون تركيزها على المستخدمين. ولكن مؤخراً بدأ التركيز يتجه إلى مصممي هذه التطبيقات وشركات السيليكون فالي التي تستحق جزء من اللوم.. إن لم يكن الجزء الأكبر (مستثمرين كبار طالبوا آبل بالتدخل وحل مشكلة إدمان الهواتف)
السبب بكل إختصار هو تعامل شركات مثل فيسبوك وغيرها مع أمثال توماس راموسي، مدير ومؤسس شركة نيورنز. شركة تستقطب الباحثين المتخصصين في دراسة علوم الإدراك cognitive science لدراسة تركيزك, تصرفاتك, وأهدافك. بعدها يتم استخدام نتائج هذه الأبحاث للوصول إلى توصيات يتم رفعها إلى شركات السيلكون فالي مثل فيسبوك وتويتر. تقوم هذه الشركات بإستخدام هذه الدراسات العلمية وقت تصميم استراتيجياتها وبالتأكيد وقت تصميم واجهة التطبيق.
الهدف الرئيسي لهذه الشراكة هي:
– الحصول على تركيزك وسط كل التطبيقات التي تقوم بإستخدامها.
– بعد الحصول على تركيزك يصبح الهدف زيادة مدة استخدامك للتطبيق بأكثر شكل ممكن.
– وفي النهاية يتم تحويلك من مستخدم طبيعي إلى مستخدم مدمن لا يستطيع ترك التطبيق لأكثر من ساعة.
دانيل جولمان تحدث سابقاً عن التركيز في محاضرة مدتها ساعة ونصف (أنصح الجميع بمشاهدتها اللنك هنا). بكل إختصار يذكر جولمان سبب إدمان الأشخاص للتطبيقات هو تنافس الشركات على تركيز العملاء.. ومسألة الحصول على تركيزك كمستخدم هي مسألة بقاء أو موت بالنسبة لهذه الشركات. لذلك يعتقد جولمان أننا نعيش اليوم في عصر إقتصاد التركيز attention economy.
النتيجة لهذه الإستراتيجيات -التي يعتقد البعض انها غير اخلاقية- هي مشكلة ادمان الهواتف المرعبة التي يمر بها هذا الجيل. ونتيجة لهذا الإدمان نجد أيامنا تمضي بشكل متشابه وممل لا نحقق فيه أي هدف كنا نطمح له في اليوم السابق.. مهما كان هذا الهدف تافه.
من نتائج دراسات هذه الشركات التي تحدث عنها الباحثين هي كيفية إدمان العقل للمعلومات الجديدة craving of novelty وكيف شبكات إجتماعية مثل تويتر وسناب تستغل هذا الشيء وتصمم التطبيق بطريقة تجبر مقدمي المحتوى بالإختصار والتجديد. لأن رأس مال هذه الشركات ليس المصممين، ولا المعلومات، ولكن أنت.. المستخدم النهائي. “إذا كان المنتج مجاني، غالباً انت المنتج الحقيقي.” وأطلب من أي شخص مشكك في هذه العبارة ويعتقد أنها تحتوي على بعض المبالغة أن يراجع كيفية حصول الشركات هذه على الأرباح business model. ستجد الربح يأتي عن طريق الإعلانات.. يحصلوا على تركيزك ويجبروك أن تصبح مدمن لهذا المنتج، ومن ثم يقوموا ببيع هذا التركيز للشركات التي تعلن في هذه التطبيقات.
نعود لموضوع القراءة..
لسنوات تعودنا على قراءة الأخبار والمعلومات بشكل مختصر (١٤٠ حرف سابقاً) أو (١٠ ثواني في السنابة الواحدة).. هذا بالإضافة إلى التنوع الكبير المضر بين كل تغريدة واخرى. مثلاً، طبيعي أن تقرأ خبر عن زيارة محمد بن سلمان للمملكة المتحدة، خبر عن مدرب نادي الهلال وفيديو عن تحليل علمي بخصوص كروية الأرض في ١٠ دقائق فقط. وهذه الطريقة ممتعة.. التنوع الرهيب في المعلومات وإختصاراها يقتل الملل. ولكن المشكلة الكبيرة أن هذه الطريقة لا تنتج معرفة عميقة بإي معلومة .. بل تنتج معرفة سطحية، معرفة لم تستهلك في بنائها ولا حتى نصف ساعة من التفكير النقدي العميق (كتاب أنوي قرائته عن الموضوع the shallows).
الان.. بعد سنوات من تدريب عقلك على تلقي المعلومات بهذا الشكل السلبي، البسيط، الكسول.. تعتقد انك قادر على قراءة كتاب من ١٨٠ صفحة على الأقل عن موضوع واحد.. بشكل ممل (لعقلك على الأقل)؟ بالتأكيد لا. غالباً ستكون القراءة عبارة عن معاناة ومن الصعب جداً أن تستطيع جعلها عادة لهذا السبب. ستجد عملية القراءة بطيئة، مملة ويصعب جداً التركيز خلالها.
بعض المختصين يقوموا بوصف العقل البشري بالكسول. لأن أحد وظائف العقل الرئيسية هي استخدام الطاقة بكفاءة عالية.. لذلك تجارب مثل تصفح مواقع التواصل الاجتماعي تعتبر مفضلة للعقل لانك لا تفكر بشكل حقيقي.. ولكن تستقبل المعلومة بشكل مبسط بدون أي تفكير عميق passive experiernce.
والحل؟
– القراءة ضرورة وليست ترف. لا تحاول أن تستبدل القراءة بمصادر ترفيه اخرى. تقبل الملل. وغير السؤال من (كيف أصبح شخص يحب القراءة) لـ (كيف استطيع تقبل ألم القراءة في البداية إلى أن أصل مرحلة أستطيع الاستمتاع بالقراءة فيها؟)
– لا أعتقد انك أكثر انشغالاً من بيل جيتس، وارن بافيت أو مارك كيوبان. ثروة الثلاثة أشخاص مجتمعة تتعدى المليارات ويديروا أكبر الشركات في العالم. ومع ذلك جميعهم يتحدثوا عن طقوس القراءة الخاصة بهم. لذلك قليلاً من التواضع، وكثيراً من التركيز على كيفية استغلالك لوقتك.. بالتأكيد تستطيع إيجاد نصف ساعة في يومك تقرأ بها.
– بيل جيتس يقول انه يحجز ساعتين من يومه يتفرغ فيها للقراءة، ويقوم بالكتابة على الهوامش لزيادة تفاعله وتركيزه مع ما يقرأ. في المقابل شاهدت نصيحة جميلة لشخص اخر يذكر فيها انه يقرأ نصف ساعة يومياً فقط في بداية يومه. وبالتأكيد لو قرأت عن طقوس أشخاص اخرين ستجد تنوع كبير بينها. لذلك انصح بالتجربة.. جرب القراءة في بداية اليوم ويوم اخر في اخره.. جرب طريقة كتابة بيل جيتس او اخترع طريقة خاصة بك.. حتى تصل إلى عادة تكون مرضية لك وتساعدك في القراءة بشكل مستمر.
– قليلاً من التواضع في أهداف القراءة الخاصة بك. قضى باوميستر أكثر من عشرين سنة في دراسة الحوافز البشرية والـ self regulation. هذا المفهوم له علاقة بالتحكم بالنفس (لذلك يسمى كذلك بالـ self-control) وذكر فيه سبب فشل اكثر من ٨٠٪ من الشعب الأمريكي في تحقيق أهداف السنة الجديدة هو قدرتنا المحدودة في التحكم بأنفسنا. تبدأ يومك مثل الايفون، بطارية ١٠٠٪، ومع كل مرة تجبر نفسك أن تقوم بشيء لا ترغب فيه تستهلك جزء من هذه البطارية. قيامك من السرير، الذهاب إلى الجامعة، عدم استخدام الجوال.. كلها امور تستهلك من هذه الطاقة المحدودة. نفس الشيء بخصوص القراءة. لا تستطيع أن تقرأ لمدة ساعة كاملة في اليوم من البداية.. ربع ساعة في أول اسبوع يبدو هدف منطقي وجميل.. وبعد اسبوع تصبح ٢٥ دقيقة حتى تصل إلى ساعة (او نصف ساعة إذا كان هذا هدفك، وهو انجاز جميل!). بكل إختصار فكّر في بناء عادة مستمرة.. وليس انجاز وهمي لمدة شهر او شهرين وينتهي بعدها. هدفك النهائي أن تكون قارىء.
– قم بتونيع الكتب. اقرأ عن التاريخ، الفلسفة، الاقتصاد، روايات.. الخ. هذا التنويع يساعدك في تجاوز الملل الذي ستواجهه بكل تأكيد.
“كلا.. لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لازداد عمراً في تقدير الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني..”
عباس محمود العقاد
بارك الله فيك
واتمنى تتكلم في موضوع مستقل كيف نشجع الابناء على القراءة
شيئ محزن رؤية ابناؤنا على الجوال طوال اليوم وخاصتا اذا كان في عمر المراهقة يصعب اقناعه بشيء يراه ممل وصعب
فعلا نحن نعيش في عصر اقتصاد التركيز، أعتقد أن هنالك فرص في جعل الكتب تتفاعل أكثر مع القارىء من خلال التقنية الحديثة وتقنية الواقع المعزز، خصوصا للأطفال.
جزاك الله خير على هذه المعلومات، مع اني استمتع بقراءة الكتب الا انه ينطبق علي ماكتب في هذا المقال، أصبحت أسهل طريقة للقراءة هي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، اصبحنا ضحية بارادتنا.
مقال رائع، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
موضوع مميز و هادف أخ أحمد، والغالبية العظمى للأسف تعاني من هذه المشكلة.
أشكرك أخي أحمد على الموضوع القيم وانا في بداية إدمان لجهازي الجوال وتقريرك هذا نبهني على أشياء كانت تدور في بالي ولم أجد لها تفسير مقنع كإنجذابي للجوال عوضا عن الكتب.
يعطيك العافيه
جميييل الموضوع
اضم صوتي للكلام عن كيفيه تحفيز الابناء للقراءه للاسف ادمان على مواقع التواصل طوال اليوم بالرغم من توفير الكتب المناسبه لاعمارهم
وارشادهم الى اهميه القراءه …
اتمنى ان تخصص حصه ف الجدول المدرسي للقراءه الحره ربما تكون وسيله للتعود على القراءه ..
في رأيي أحد أهم الوسائل المعينة على تنمية عادة القراءة هي إيجاد مواد تشد انتباهك وتبعث في نفسك الرغبة لمعرفة المزيد عنها.
أظن انه من الصعب ان تقرر أن “نحب القراءة” فقط لأنك ترى آخرين مدمنين لها وتريد أن تصبح مثلهم، فتقوم بالقراءة في مواضيع تشدهم وتهمهم هم وليس أنت!
الله يجزيك الخير يا أستاذ أحمد وييسر أمرك
يعطيك العافية أخوي أحمد،
مقال سلس وخفيف وفيه نقاط عملية.
بصير من الآن أحرص أكثر أن المحتوى اللي أشاركه في حساباتي يكون عميق ومفيد ويحفز على البحث أكثر. على الأقل أساهم في كسر عادة الناس في تويتر وغيرها من استهلاك المعلومات السطحية .. وأخليهم يتعمقون أكثر بدل مايمرون مرور الكرام ويستعجلون في استهلاك المعلومة التالية وهكذا.
أما القراءة، فطقوسي عادة صباحية، ومطولة.. وغالبا يصير لي وقفات كثيرة خلال القراءة للتحليل والبحث.. وهذا يساعد على كسر الملل.
شكرا لك 👌
شكرا لك.. يبدو ان وصف القراءه بالهواية يجب تبديله الى عاده ،، لان الهوايه في وقت الفراغ فقط على غير العاده اللتي تكون من اساسيات الجدول اليومي ،، يبيلي ابدا فيني وببناتي ومانجعلها هوايه
شكراً احمد مقال جداً مهم
نفس مشكلتي حالياً مع الكتب
متحمس للكتاب واشتريه لكن لا اكمل نصه
سأحاول تطبيق ماقلته بالمقال وباذن الله ستكون عاده
طرح مميز كعادتك احمد ..
رائع تسلسلك بالموضوع واستشهاداتك قيمه
و كالعاده واقعيتك بالعرض والحلول تمثل هويتك
“إذا كان المنتج مجاني، غالباً انت المنتج الحقيقي.”
مؤلم اللي قاله بس جد واقع نعيشه و الاهم يكون عندنا وعي بأننا المنتج الحقيقي لهم ..
ممكن يكون مفهوم الصيام الالكتروني او الرقمي علاج مفيد بحالات الادمان .
فالصيام ممكن يساهم بتعزيز الحضور الذهني، والتركيز، وتقوية الذاكرة، والانتباه، ويقلل من الارهاق والتعب
و عدم الحركه والكسل وتبقق العيون ٢٤ ساعه .
شكراً لك ، ننتظرك جديدك
مقال ممتع و رائع و يحاكي واقع نحياه،،
أحسنت النشر أ. أحمد .
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.