عن القصص التي نرويها لأنفسنا..

“من نحن سوى القصص التي نرويها لأنفسنا، عن أنفسنا، ونصدقها؟”

العالم معقد بشكل كبير، وكمية المعلومات التي نتلقاها بشكل يومي كبيرة جداً ولها أبعاد عديدة، أكثر من قدرتنا على إستيعابها بشكل منفصل (كل معلومة على حدة). والعقل لا يستوعب الحقائق كما هي raw facts. لذلك العقل مهيء على أن يفهم العالم على شكل قصص. بدلاً من محاولة تذكر وإستيعاب كل معلومة على حدة، يقوم العقل بربط المعلومات ببعضها البعض، ويخلق قصص تساعد في عمل سياق متصل يربط هذه المعلومات ببعضها البعض. هذه الطريقة أسهل وأكثر كفاءة في استخدام طاقتك الذهنية المحدودة. ومن خلالها نستطيع أن نصل إلى معنى للعالم المعقد والعشوائي حولنا.

عالم الأعصاب انتونيو داماسيو يعتقد أن السرد القصصي للأحداث حولنا ساهم في جعل المعلومات مفيدة، أقل تعقيداً، وقابلة للإنتشار بين الأشخاص. ويعتقد أن رواية القصص هي التي ساعدتنا كبشر على بناء نسيج متنوع من المجتمعات و الثقافات المختلفة.

س/ هل تعبر القصص التي يرويها العقل عن العالم عن الحقيقة؟

ج/ لا.

نمتلك عدة دوافع وإنحيازات فكرية قد تؤدي إلى (تغيير) الحقيقة. مثلاً، في الصورة السابقة نجد حالة تعبر عن الإنحياز السلبي Negativity Biased وبسببه نميل إلى المبالغة في التركيز على الأحداث السلبية في يومنا(يُسمى كذلك Negative filtering.) تقوم هذه الإنحيازات بالتأثير على ما يشبه إخراج وإنتاج القصص التي ترويها لنفسك عن العالم حولك وعن نفسك، وتؤثر على إستيعاب لكل شيء. وفي النهاية تصبح القصة التي ترويها لنفسك عن يومك سلبية.. رغم أن الأحداث السلبية في يومك قد تكون أقل من الأحداث الإيجابية.

لا تكتفي هذه الإنحيازات بالتأثير على الماضي والحاضر فقط، بل ينتقل تأثيرها للمستقبل. مثلاً، قد نبالغ في توقع الأسوء دائماً Catastrophizing ويتم سرد القصص على هذا الأساس (إذا لم أنجح في الإختبار سأفشل في المادة، وسيتم طردي من الجامعة ولن أحصل على وظيفة بعد تخرجي). ربما لذلك يعتقد باولو كويلهو أن الخوف من المعاناة أسوء من المعاناة نفسها. لأننا نميل إلى المبالغة في توقعنا للألم المصاحب للأحداث السيئة في المستقبل.

عدة أبحاث ناقشت أسباب التركيز على جزء من هذه المعلومات التي نتلقاها خلال يومنا وتجاهل معلومات أخرى (selective attention الإنتباه الإنتقائي). هذا التركيز، والتجاهل، يكون مبني على عدة عوامل. وهذه العوامل موضوع أبحاث عديدة مستمرة إلى اليوم. لذلك، بناءً على عدة عوامل منها تجاربك السابقة، مبادئك، طموحاتك، مخاوفك، أهدافك يقوم العقل بإخراج وإنتاج هذه القصص.

كيف نقوم بتحليل المعلومات التي نتلقاها خلال يومنا؟

وفي (تقسيم) آخر لطرق التحليل التي نقوم بها خلال يومنا، قام كاتب Black Swan بتفصيلها بشكل مختصر إلى قسمين، الأول هو النوع السريع من التفكير والتحليل، والنوع الثاني هو النوع البطيء من التفكير والتحليل وهذه أبرز صفات كل نوع:

System1

سريع، عادةً بدون مجهود، تلقائي، تحت مستوى الوعي، يميل للخطأ. أحياناً نسمي هذا النوع من التحليل بالحدس. تحدث عنه بالتفصيل مالكوم جلادويل في كتاب Blink (الترجمة الغير حرفية للكلمة غمضة العين بمعنى الوصول لعدة إستنتاجات في اجزاء من الثانية)… عاطفي بشكل كبير، يحب الإختصارات، يميل لإستخدام أي معلومة للإستدلال والوصول إلى أي إستنتاج بشكل سريع. مهم لأننا بدونه لن نستطيع النجاة في عالم مليء بالمعلومات والمخاطر.. ولكنه يؤدي إلى إنحيازات فكرية عديدة وأخطاء منطقية كثيرة كذلك.

System2

هو ما نسميه التفكير عادةً. يحتاج إلى مجهود كبير، منطقي، بطيء، تسلسلي، وعادة نعي هذا النوع من التحليل. نقوم بعمل أخطاء أقل في هذا النوع من التفكير، ونستطيع تذكر الخطوات التي وصلنا من خلالها إلى أي استنتاج.

دانيل كانمن عالم نفس وحائز على نوبل في الإقتصاد السلوكي تحدث بشكل مفصل عن طرق التفكير وأهم الإنحيازات الفكرية الناتجة عن التفكير السريع. لخصت هنا أهم النقاط التي تحدث عنها في أحد مقابلاته
مالكوم جلادويل تحدث في كتاب Blink وتأثير التفكير السريع والإستنتاجات السريعة التي نصل إليها وتؤثر على تفكيرنا بشكل كامل، سواءً السريع أو البطيء.

نشعر غالباً براحة أكبر حين نقرأ معلومات تدعم أفكارك المسبقة.لذلك أغلب الأحيان يقوم العقل بتحوير الحقائق على شكل قصص تتفق مع الصور النمطية المسبقة التي تحملها بخصوص كل شيء.

دراسات علوم النفس الإدراكية Cognitive Pschology تدعم فكرة مهمة للغاية، أن العقل وبشكل تلقائي يبني إفتراضات عن الأشخاص/الظروف/الأشياء حولنا، ويقوم بتحوير المعلومات بشكل يتفق مع الأفكار المسبقة التي نحملها عن أي شيء. مفهوم شهير عن هذا المفهوم هو الـ Motivation Reasoning

يدعم هذا الإفتراض المشكلة التي تواجه شركات التقنية في سيلكيون فالي مثل يوتيوب، فيسبوك وتويتر. هذه الشركات تواجه إنتقادات حادة تجاه الأخبار التي يتم توصيتها في هذه المواقع. فيسبوك مثلاً، تقوم بنشر أخبار بناءً على ما ترغب في سماعه. أنت مع دونالد ترامب؟ إذا فوكس وغيرها من المواقع ستظهر لديك في قائمة التوصيات. إذا كنت مع الحزب الديمقراطي؟ غالباً الأخبار ستدعم أفكارك التي تؤمن بها مسبقاً، وتساعدك على دعم الحقيقة التي تؤمن بها مسبقاً، بغض النظر عن مصداقية هذه الأخبار من عدمها. فجأة، أصبحنا نمتلك وسيلة قوية تقوم بتوصية قنوات وفيديوهات وأخبار تتبنى هذه القصص narratives وبالتالي يصبح الشخص أكثر قناعة بأفكاره.. ويمتلك حصيلة لغوية أفضل لتبرير قناعاته.. مهما كانت خاطئة.

النتيجة إنتشار أكبر للأخبار الكاذبة لأن الهدف الأساسي ليس الحقيقة، ولكن إسعادك وإبقاءك لفترة أطول على الموقع. وبدلاً من أن تكون منصات التواصل الإجتماعي فرصة للنقاشات وتحدي الأفكار، أصبحت سبب أكبر للإنقسام polarization وجعلت مستخدميها يبنوا فقاعاتهم الخاصة المليئة فقط بالأخبار التي تدعم أفكارهم والأشخاص الذين يتفقوا معهم فقط. وإذا لم تتفق الأخبار التي يتم توصيتها مع أفكارنا المسبقة، غالباً سنمر بمشاعر سلبية تجاه الموقع وإحتمالية إستخدامنا لها ستكون أقل.

يوتيوب واجه إنتقادات عديدة بعد إنتشار إدعاءات عديدة أن طريقة عمل الموقع ساهمت في دفع عدد من مستخدميها لأن يصبحوا أكثر تطرفاً في أرائهم لأن الموقع يقوم فقط بتوصية الأخبار التي تدعم أفكارك المسبقة بدون توصية أخبار قد تتحدى هذه الأفكار. والنتيجة تطرفهم أكثر في قناعاتهم، وقدرتهم على تبريرها للآخرين بشكل يعتقدوا انه أفضل.

بشكل عام نحن لا نبحث عن معلومات تدعم محاولتنا للوصول إلى الحقيقة، ولكن نبحث عن معلومات تدعم “الحقيقة” التي نؤمن بها مسبقاً. بوعي وبدون وعي نقوم بذلك.

المشكلة لا تقف عند مشاهدة فقط ما يدعم أفكارنا، ولكن حتى في طريقة إستيعابنا للمعلومة نفسها. هنالك عدة إفتراضات ودراسات تدعم فكرة أن العقل يقوم بتطويع المعلومة حتى تصبح في سياق القصص التي تؤمن بها مسبقاً تجاه أي شيء. تحدث كاتب Black Swan عن الموضوع بشيء من التفصيل: (عكس ما يعتقد الجميع، عدم الوصول لإنطباعات معينة تجاه أي شيء يحتاج إلى جهد ووعي كبير.) لذلك حين تقابل شخص معين، في لحظة واحدة تكون وصلت إلى عدة إستنتاجات بخصوص هذا الشخص وبدأت في تنميطه ووصلت إلى استنتاجات تأثرت بتجاربك السابقة والأفكار التي تحملها وتؤمن بها. (هذا هو الوضع الطبيعي للعقل. بكل إختصار نحن بحاجة أن نبذل مجهود عظيم كي نرى الإشياء كما هي.. بدون أي مؤثرات وأفكار مسبقة نحملها داخلنا.)

Counter to what everyone believes, not theorizing is an act -that theorizing can correspond to the absence of willed activity, the “default” option. It takes considerable effort to see facts (and remember them) while withholding judgment and resisting explanation..

السؤال المهم، إذا كان العقل يقوم بإستخدام القصص ليستوعب العالم حولنا، ماذا عن القصص التي يرويها العقل لنا عن أنفسنا؟ من المسؤول عن إخراج وإنتاج هذه القصص التي نرويها لأنفسنا، عن أنفسنا؟ وهل تساعدنا على رؤية الحقيقة كما هي، أم أنها تتأثر بعض الإنحيازات الإدراكية التي لا نستوعبها بشكل كبير؟

Hedonic Principle and Self-Serving Biases

لإلقاء الضوء ولو بشكل بسيط على هذا الجزء المعقد، والجميل، عن النفس، يجب أن نعود لأحد أهم مبادئ علم النفس الإدراكي ويسمي بالـ Hedonic Principle، وبكل إختصار ينص هذا المبدأ على أن العقل مُحفز على التقرب من الملذات، والبعد عن الألم.. to seek pleasure and to avoid pain. وإن كان يبدو هذا المبدأ الأساسي والهام بديهي للغاية، وهو كذلك، لكن تنتج عنه إنحيازات إدراكية غير بديهية ابداً ولا نستوعب أغلبها.

لأننا إذا كنا نمتلك حوافز قوية للإقتراب من أي شيء يجعلنا نمر بمشاعر إيجابية، ونبتعد عن أي شيء يجعلنا نمر بمشاعر سلبية، إذاً كيف سيتعامل عقلنا مع الحقائق الموجعة التي نمر بها في حياتنا؟ كيف نتعامل مع معلومات الفشل؟ الرفض؟ الإحباط؟ وغيرها من التجارب الصعبة التي نمر بها؟

نمتلك حوافز عميقة وقوية لأن نحمي الصورة الصورة الإيجابية التي نحملها عن أنفسنا Self-Protection Motives، وبسبب هذه الحوافز القوية نمتلك إنحيازات ذهنية عديدة هدفها الرئيسي هو حماية الصورة الإيجابية التي تحملها عن نفسك. هذه الحوافز تتحكم في صياغة الرسائل التي نشاركها مع أنفسنا وتقوم بما يشبه دور مدير التحرير في الصحف.. يقوم برفض معلومات ويقبل معلومات أخرى، يقوم بصياغة وتحرير المعلومة tone بشكل يتفق مع الأجندة الرئيسية لهذه الصحيفة. وأهم الأجندة لهذه الدوافع هي حماية حماية الصورة الإيجابية التي نحملها عن أنفسنا.

تؤدي هذه الحوافز إلى عدة إنحيازات فكرية أبرزها ربط أي نجاح بالنفس، ولوم أي فشل على ظروف ومسببات خارجية Self-Serving Attribution Biases. فشلت في الحصول على ترقية معينة؟ المشكلة في المدير، فشلت في مادة معينة؟ المشكلة كذلك في الدكتور. أخطأنا؟ بسبب الظروف. أصبنا؟ بسبب مجهودنا الشخصي. بلا شك هذه الإنحيازات لها فوائد عدة منها الثقة بالنفس، الشعور بشكل إيجابي. وقد تكون صحيحة في بعض الأحيان. نعم قد يكون سبب فشل طالب في المادة سوء المدرس، وفشل الموظف في مشروع معين هو مديره. ولكن الحديث هنا عن إستخدام هذه العدسة في رؤية الفشل والنجاح بشكل مستمر. هنا قد تكون الدوافع النفسية هي خلف تحليلنا للأمور من هذا المنطلق. وليس الواقع. وقتها النتيجة ستكون البعد عن الواقع مع مرور الوقت، وعدم قدرتنا على حل المشكلة لأننا لم نعترف بها من الأساس.

ومن بين هذه الانحيازات العديدة، أخذ إنحياز لوم الآخرين بشكل خاطىء على فشلنا وظروفنا السيئة misattribution of blame حيز كبير من الأبحاث. سواءً الخاصة بالتسويق، علم النفس أو حتى العلوم السياسية. أعتقد أحد أبرز الأسباب لذلك الإهتمام هو تأثير المشاعر الكبير وقت الفشل.. ووقتها تصبح الصورة ضبابية أكثر بسبب هذه المشاعر.. الحزن بسبب الفشل، الغضب بسبب عدم الوصول للهدف.. كلها عوامل تحفزنا على لوم الآخرين والظروف.. وأحياناً يقع اللوم على الآخرين، ولكن نبحث عن أسباب خاطئة لا تعكس الصورة الكاملة..

هذه الحوافز والدوافع التي تسعى لحماية الصورة الإيجابية التي نحملها عن أنفسنا لا تكتفي فقط بتحويل وتغيير المعلومات التي نتلقاها خلال يومنا، ولكن تقوم بالتأثير حتى على تصرفاتنا في المستقبل كذلك. تحدث عالم النفس الأمريكي إدوارد جونز عن نظرية الإعاقة الذاتية Self-Handicapping Theory وتنص بكل إختصار أننا على إستعداد أن نبذل مجهود أقل في سعينا لبعض الأهداف كحماية مسبقة لصورتنا الإيجابية في حالة الفشل. مثلاً، يقوم طالب ببذل مجهود أقل في الدراسة ليلة الإختبار كي يمتلك عذر مسبق في حالة الفشل. لأنك في حال بذلت كامل مجهودك في الإستعداد للإختبار وفشلت في النهاية، ستصبح حماية صورتك الإيجابية أصعب، وتصل لقناعات صعبة مثل عدم إمتلاكك للمقدرة الذهنية لتجاوز الإختبار، أو انك أقل ذكاءً من زملائك لذلك حصلت على درجات أقل منهم. ولكن إذا لم تقوم بالمجهود الكافي ليلة الإختبار، وقتها الفشل يبدو وكأنه إختياري، تقنع نفسك بأنك تستطيع النجاح ولكن لم ترغب بذلك. هنا وطأة الفشل تكون أخف على النفس.

هنا أصبحنا نتصرف بشكل غير منطقي (لا نبذل مجهود كافي لتحقيق أهداف نسعى لها ونرغب في تحقيقها فعلاً) فقط لنحمي مشاعرنا وصورتنا الإيجابية أمام أنفسنا وأمام الجميع. ونصبح أقرب لأن نعيش في وهم.. بدلاً من أن نعيش في حقيقة قد تبدو موجعة ومخيفة لنا.

من الممكن أن نستنتج أن للأهداف تكلفة نفسية مرتفعة بجانب التكلفة المادية أو الذهنية.. وأزعم أن التكلفة النفسية أعلى. كل هدف تسعى له، ويعلم عنه الآخرين.. يضع الصورة التي ترغب بحمايتها تحت الإختبار، وقتها تبدأ تلك الدوافع التي تسعى لحماية هذه الصورة بالتدخل وحمايتها عن طريق تعديل الحقائق والمعلومات التي تتلقاها خلال سعيك نحو أي هدف.


that’s simple psychological denial. The reality is too painful to bear, so you just distort it until it’s bearable. We all do that to some extent, and it’s a common psychological 
misjudgment that causes terrible problems.
في حديث طويل لمنجر (يمين الصورة) عن بعض الأخطاء السيكلوجية التي تؤدي إلى أخطاء منطقية عديدة نمر بها في حياتنا، تحدث منجر عن أحد أهم هذه الأخطاء وهو الوهم: الحقيقة مؤلمة بشكل كبير، ولنتحملها نقوم بالتلاعب بها حتى تصبح أقل وطأة على النفس. خطأ إدراكي يسبب قرارات سيئة كثيرة. هنا نقلت بعض النقاط المهمة لخطاب سابق لمنجر عن الإنحيازات الإدراكية.

الاستهلاك التعويضي والحقيقة الإجتماعية

الآن، بعد أن أقنعنا أنفسنا بهذا الوهم، أصبح لدينا حافز آخر وهو إقناع الآخرين بهذه الصورة الإيجابية التي نحملها عن أنفسنا. تحدث الباحث Gollwitzer وهو باحث علم نفس معروف في مجال الأهداف عن هذا المفهوم الذي يندرج تحت مسمى الحقيقة الإجتماعية Social Reality وهي ليست حقيقة، ولكن وهم نحاول إقناع الآخرين به.

وجد الباحثين، والعاملين، في مجال التسويق ضالتهم في هذه الدوافع. محاولتنا لأن نقنع الآخرين بأي فكرة عن أنفسنا تصبح أسهل من خلال إستخدام منتجات وخدمات المعينة. جزء كبير من أبحاث التسويق يندرج تحت مفهوم compensatory consumption أو الإستهلاك التعويضي وهو أي إستهلاك يكون نتيجة لشعورنا بالنقص. نسعى من خلاله تعويض هذا النقص من خلال شراء منتجات ذات دلالة إجتماعية identity signaling. شراء سيارة فارهة رغم معاناة حسابنا البنكي، الذهاب إلى المقهى بكتاب معين رغم اننا لم نقرأ حتى المقدمة، تصوير ذهابنا إلى النادي رغم اننا لم نقوم بالتمرين بالشكل الكافي. جميعها تصرفات قد تقع تحت هذا النوع من الإستهلاك.

بحث عن إستهلاك البعض للحجم الكبير لوجبات المطاعم السريعة لأنهم يعتقدوا أن هذا التصرف يدل على قدرتهم المالية، ويسعوا من خلال هذا التصرف إقناع الآخرين انهم في مكانة إجتماعية أعلى. الباحثين تحدثوا عن مفهوم Status Signaling وهو مفهوم يندرج تحت الـ identity Signaling

في النهاية المشكلة ليست في محاولة الظهور بشكل إيجابي أمام الجميع.. هذا هدف إنساني طبيعي والكل يرغب أن يكون مقبول من أكبر قدر ممكن من الأشخاص. المشكلة تكمن في محاولة الوصول لهذه الصورة الإيجابية في ذهن الآخرين عن طريق الإستهلاك. أو لإظهار جانب لا نمتلكه في أنفسنا.

نلاحظ أن هذه الدوافع والحوافز التي تقوم بتغيير المعلومات أو وضعها في سياق معين بدأت بيننا وبين أنفسنا، وبعدها انتقلت إلى محاولة إقناع الآخرين.. وأصبحت التكلفة ليست فقط نفسية، ولكن مادية كذلك. وأعتقد انها لا تنتهي إلا بأن يجد الشخص نفسه محاصر في هذا الوهم الذي أقنع الجميع به.. وقتها تكون تكلفة التخلي عن هذا الوهم نفسياً وإجتماعياً مرتفعة بشكل كبير. لا أعتقد أن جودة حياة نحاول خلالها إقناع الآخرين بشكل مستمر تستحق كل هذا العناء.

تحدث نافال في لقاءه مع جو روجان عن فكرة أن تعيش تحت مستواك المعيشي. وأن مشكلة بعض الأطباء والمحامين في أمريكا، وهم أشخاص فعلاً ناجحين في حياتهم، هي ترقية مستواهم المعيشي بشكل مستمر. مع كل زيادة في الدخل ينتقلوا إلى أحياء أفضل. وتصبح محاولة اللحاق بأي دائرة إجتماعية جديدة يدخلوها مثل السباق المستمر الذي لا ينتهي. بيت أفضل، سفر آكثر، سيارة جديدة، ملابس أفضل.. دائرة لا تنتهي. لذلك يعتقد نافال أن تعيش في مستوى معيشي أقل من قدرتك المادية هو أفضل خيار نفسياً ومادياً كذلك. لا يوجد أشخاص جدد تحاول أن تقنعهم بتقدمك وتطورك الوظيفي أو المادي. لن تجد نفسك في موقف يجبرك أن تقارن سيارتك بسيارة شخص آخر.. هذه المقارنة المستمرة مع الآخرين لن تحفزك على القيام بأي شيء إيجابي.. غالباً.

خاتمة

لم أسعى من خلال هذه التدوينة بالتركيز على حلول أو طرق للتغلب على هذه المشكلة. لأني إن قمت بذلك يعني انني استطعت التغلب على هذه المشكلة، وهذا الإستنتاج أبعد ما يكون عن الواقع. ذكر دانيل كانمن الحائز على نوبل في الإقتصاد السلوكي وخبير في الانحيازات الإدراكية وكاتب Thinking fast and slow، انه وبعد هذه السنوات والأبحاث الخاصة بهذه المواضيع لا يجد نفسه في موقف يسمح له بالتحكم بهذه الإنحيازات الإدراكية.. ولم تساعده حتى أن يكون أفضل من أي شخص غير خبير في الموضوع. والسبب انها تحت مستوى إدراكنا، وأن بعض الخبراء يمتلكوا حصيلة لغوية تسمح لهم تبرير هذه الإنحيازات الإدراكية بشكل أفضل.. لكنها تظل موجودة في تحليلهم بشكل عام.

في المقابل حاولت التركيز على توصيف المشكلة وهذا لسبب بسيط جداً. لن تستطيع من خلال قراءة تدوينة واحدة عن الموضوع أن تواجه قصص وحوافز أخذت سنوات لتتشكل. ولكن معرفة هذه الحوافز والإنحيازات الإدراكية قد تساعدنا في إتخاذ خطوة صغيرة، ولكن مهمة، في الاتجاه الصحيح. (أول خطوة لحل أي مشكلة هو الإعتراف بها.) والوعي بالذات هو أحد أهم الخطوات لحل أي مشكلة نفسية قد تواجهنا. لن نستطيع تحليل كل معلومة نتلقاها خلال يومنا بهدوء. سنشعر بإجهاد ذهني ولن نستطيع إكمال يومنا بعد أول ساعة أو ساعتين. لكن مهم أن نحاول تحليل الأمور المهمة بهدوء، خصوصاً اللحظات المهمة التي تستحق العناء وهذا المجهود الذهني الكبير.

نقطة أخرى، رغم أن مواقع التواصل الإجتماعي أصبحت شماعة لأي مشكلة، ولكني فعلاً أعتقد انها سبب رئيسي يزيد من كل المشاكل التي تحدثت عنها في هذه التدوينة. الإستخدام المبالغ لها يعني انك ستلاحظ وبشكل مستمر نجاحات الآخرين، إن افترضنا أنها نجاحات حقيقة وليست صورة معينة يرغبوا في إقناعك بها، وملاحظة هذه النجاحات سيجعلك تدخل عقلية السباق، وتعتقد انك متأخر عن الجميع. هذه العقلية لن تساعدك على تقبل الأخطاء وأوجه النقص في نفسك بالشكل المطلوب، وقد تكون سبب رئيسي لوقوعك في أي من الإنحيازات الإدراكية التي ذكرتها.

رغم أن انستجرام يحاول التركيز على الإيجابية والأشياء الجميلة في الحياة، إلا أن مبالغة مستخدميه في تسويق الحياة المثالية.. النجاحات.. كل يوم هو يوم رائع آخر، كلها عوامل قامت بتحويل التطبيق إلى أحد أسباب الإكتئاب وقناعة الكثير بأنهم بعيدين عن هذه الحياة التي يعيشها الآخرين. رغم أن الصورة التي ينقلها الكثير على التطبيق مزيفة ولا تعكس الواقع.

أزعم أن أصعب تكلفة تواجهنا وقت محاولة تحقيق أي هدف، هي التكلفة النفسية لهذا الهدف. تأثيرها أكبر من التكاليف المادية والذهنية كذلك. لذلك الإقتناع بأهمية المشاعر السلبية المصاحبة لأي هدف (مثل الخوف من الفشل) وتقبلها كجزء لا يتجزأ من أي هدف سيساعد في الهدوء وعدم الوقوع في أي من الإنحيازات الفكرية أو التلاعب بالحقيقة لحماية مشاعرنا. وأن نأخذ الأمور بهدوء وتروي. لأننا سنمتلك وقتها عقلية تسمح لنا بتقبل النقص والفشل المصاحب لأي محاولة حقيقية لتطوير أنفسنا في أي جانب.

الهدف بأكثر تعريف عام له هو مجرد شعور بالتوتر state of tention نتيجة للفارق الذي نراه بين صورتنا الان وصورتنا بعد تحقيق الهدف.وهذا التوتر هو الحافز الأول والطبيعي لتحقيق أي هدف. وأي محاولة تجاوز أي شعور سلبي طبيعي نمر به خلال محاولة تحقيقنا لأي هدف بشكل غير مباشر ومختصر (مثل التلاعب الحقائق لنرضى عن أنفسنا) قد يلغي أي حافز لتحقيق هذا الهدف من الأساس.

في المقابل، تقبل هذه المشاعر السلبية، والإقتناع بتكلفة السعي نحو حياة أفضل بشكل كامل قد يساعدنا ولو بشكل بسيط على أن نرى الأمور كما هي بدون أي “فلتر” تجميلي للواقع. وبذلك نستطيع نكون أقرب لأن نستمتع فعلاً بالرحلة.. بدلاً من التركيز المبالغ فيه على المحطة النهائية.

Leave a reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *