1
الشعور المستمر بالإرهاق، التأجيل المبالغ فيه لأبسط المهام، إنعدام الحافز والحاجة لوقت طويل للقيام بأمور روتينية عادةً لا تأخذ دقائق.. جميع هذه الأعراض قد تكون مرتبطة بنفس المشكلة: الإحتراق الوظيفي.
كذلك الشعور المستمر بالذنب عند القيام بأي شيء لا علاقة له بالعمل. ولتجنب هذا الشعور، نبدأ بتبرير كل شيء نقوم به من خلال ربطه بالعمل، الإنتاجية، أو التقدم الوظيفي. القراءة مثلاً، إذا لم تكن عن موضوع يساعد في التقدم الوظيفي، غالباً لن يتم قراءة الكتاب.
في كتاب The Burnout Society عرَفت الكاتبة هان الإحتراق الوظيفي بالشعور المستمر بالتعب والإكتئاب. مرض عادةً ما يُصيب المجتمعات التي تعاني من إيجابية مفرطة، وكامل تركيزها منصب على الإنتاجية.. لا شيء مستحيل.. تفرض على أفرادها توقعات عالية تصيبهم بالإحباط والتدمير الذاتي Self-Destruction .
ماهو الإحتراق الوظيفي؟ “منظمة الصحة العالمية أضافت ظاهرة الإحتراق الوظيفي عام 2019 إلى النسخة الحادية عشر من تصنيف الأمراض العالمية، ولكن كظاهرة وظيفية وليست كحالة طبية. في السويد مثلاً، من الممكن أن يأخذ الموظف إجازة مرضية بسبب الإحتراق الوظيفي. ولكن من الصعب تطبيق هذا الشيء في الولايات المتحدة، العديد من المختصين في علم النفس يعترضوا على إعتباره مرض بسبب ضبابية التعريف، والتداخل الكبير بين أعراضه وأعراض الإكتئاب.”
اليوم نجد أنفسنا مُطالبين بالعمل بشكل أكبر، وألا نتوقف عند الشعور بالتعب ولكن عند الإنتهاء من العمل. البعض مثلاً، يفتخر بعدد ساعات النوم القليلة، خصوصاً وأن النوم إرتبط وبشكل غريب بالكسل وعدم الإنتاجية. ربما لأننا أصبحنا فقط من خلال إنتاجيتنا في العمل نستمد تقديرنا لأنفسنا.
2
في مقالة بعنوان “لماذا يدَعي الجيل الجديد حبه للعمل؟ لماذا أغلب أبناء جيلي يعملون 18 ساعة يومياً، ويتفاخرون بذلك على إنستجرام، متى أصبح إدمان العمل أسلوب حياة؟” وصفت الكاتبة إيرين جريفيث هذه الثقافة بالـ “إيجابية السميَة” وأبرز صفاتها: الشغف بالإجتهاد والعمل، إيجابية مستمرة في سلوكك وأفكارك مهما كانت مشاعرك، واخيراً الإيمان بأن العمل هو المصدر الأهم الذي تستمد منه قيمتك تجاه نفسك.
تحدثت الكاتبة بإسهاب عن إستغلال الشركات لإنتشار هذه الثقافة، أو البروباجاندا، لهدف بسيط وبديهي: الحصول على أفضل الموظفين من خريجي الجامعات، ومن ثم إبقائهم على مكاتبهم لأطول مدة ممكنة. وقامت الكاتبة بتشبيه الحملات الدعائية الموجودة اليوم في الولايات المتحدة بتلك التي كانت منتشرة في فترة الإتحاد السوفيتي.
فكرة عقلية السباق ليست جديدة، ويوجد لها مسمى شهير تم إستخدامه بشكل كبير ولسنوات: سباق الفئران rat race، وهو السعي المستمر بدون وجهة محددة، والشعور الدائم بالإرهاق ذهنياً، نفسياً وجسدياً. هو بإختصار سعي لا ينتهي في العمل، لا توجد نهاية واضحة ومحددة له. مع تحقيق كل هدف عملي جديد، تلوح في الأُفق أهداف جديدة ولكن بنفس الشعور بالنقص. وهكذا، دائرة لا تنتهي من الأهداف المتجددة، والشعور المستمر بالنقص والإحباط.
3
والإحتراق الوظيفي ليس حكراً على الموظفين الجدد وخريجي الجامعات. هؤلاء، منطقي أن يعملوا لساعات طويلة لبناء سمعة جيدة لأنفسهم في أوساط عملهم. وقد تؤدي هذه الساعات الطويلة من العمل، بشكل منطقي، إلى وصولهم إلى حالة من الاحتراق الوظيفي. ولكن المشكلة يُعاني منها حتى الناجحين نجاح خارق يتجاوز كافة المعايير المرتبطة بالنجاح أياً كانت حدودها!
مثلاً، مؤسس تويتش تحدث بشكل واضح عن مشكلة نفسية لازمته حتى بعد تحقيقه لنجاحات لن يصل إليها إلا قليل من الأشخاص عبر التاريخ: “ماذا لو أخبرتك بأني شعرت بالفشل في نفس المرحلة التي قمت فيها ببيع شركة تويتش بمليار دولار؟ هذه الرسالة لأي شخص يعاني من متلازمة المحتال (امبوستر سيندروم) حين تمتلك ستارتب، من السهل أن تنخدع وتعتقد بأن الجميع يتألق، وأنت الوحيد الذي يغرق. المقارنة جزء أساسي من انسانيتنا، ولكنها في نفس الوقت سبب رئيسي للمعاناة.”
التساؤلات والشكوك التي تسعى لتجاوزها من خلال العمل لساعات أطول ستستمر حتى بعد وصولك. أياً كان تعريفك لكلمة “الوصول”.
يعتقد كال نيبورت -كاتب العمل بعمق- بأن سبب هذه الظاهرة هو دخول الأفراد مع كل نجاح وتفوق عملي أو دراسي إلى دوائر إجتماعية جديدة. وهذه الدائرة الجديدة مليئة بموظفين أفضل منك ولديهم إنجازات أعلى، مما يخلق شعور مستمر بالتأخر ورغبة دائمة باللحاق بأعضاء هذه الدائرة الاجتماعية الجديدة.
4
من الصعب الحديث عن أي مشكلة نفسية معاصرة دون إلقاء جزء من اللوم على مواقع التواصل الاجتماعي. حسب دراسة جديدة، زادت معدلات الاكتئاب (حول العالم) مع حلول العام 2012.. نفس فترة صعود وإنتشار مواقع التواصل الاجتماعي.
بلا شك الاقتران لا يعني السببية، ولكن يوجد إحتمال كبير أن شبكات التواصل الاجتماعي خلف جزء كبير من هذه المعاناة النفسية. في مواقع التواصل الاجتماعي تكثر عملية المقارنة مع الآخرين، بوعي وبدون وعي. ومن الطبيعي أن تخلق هذه المقارنة المستمرة في منصة تجمع عدد كبير جداً من الناجحين شعور بالتأخر، ورغبة جامحة بمحاولة اللحاق بهم.
بل يسعى البعض من خلال هذه المنصات إلى فرز التوقعات من كل فئة عمرية. أتذكر مثلاً تغريدة لشخص يذكر الأمور التي يجب عليك القيام بها قبل بلوغك الثلاثين، تضمنت القائمة الحصول على الماجستير، الزواج، بداية مشروع، إستثمارات في الأسهم، وغيرها من التوقعات الغير منطقية. بلا شك القائمة محبطة لمن هم فوق الثلاثين، وتضع من هم في العشرينات، سنوات استكشاف الذات، تحت ضغط غير مبرر لتحقيق جميع ما في هذه القائمة التي تبدو وكأنها وصفة النجاح الوحيدة. رغم أنها مجموعة توقعات تعامل الحياة وكأنها معادلة رياضية.. لا تتغير بأي شكل من الأشكال. الحياة معقدة، وعلينا تقبل هذه الحقيقة بكل تواضع. الظروف تحدث، الأخطاء تحدث، والشخص يتغير مع مرور الوقت وتتغير أهدافه. هذا الطبيعي.
ولأن منصات التواصل الإجتماعي إمتداد طبيعي للمجتمعات التي تحتفل بالعمل والإنجاز، مفاهيم يدعمها المُجتمع Socially Celebrated، فمن الطبيعي أن يشعر الأفراد الذين يرغبوا بالقيام بهوايات معينة فقط من أجل القيام بها على أنهم على خطأ. وهكذا أصبحت هذه المنصات عامل يضغط الجميع للدخول في عقلية السباق.
بناءً على ذلك، أصبح البعض يشعر بتأنيب الضمير عند القيام بأي شيء فقط لأنه هواية. أصبحت القراءة، التصوير، الكتابة، الرياضة، كلها يجب أن تدعم شيء واحد: أهدافك المهنية. حتى الإجازات والسفر أصبحت مجرد “إستراحة مُحارب”، تبريرها يجب أن يكون إعادة “شحن الطاقة” للعودة بشكل أفضل للعمل.
مشكلة أخرى ساهمت فيها منصات التواصل هي تحويل الوظيفة إلى جزء كبير -أكبر من اللازم- من تعريفنا لأنفسنا إجتماعياً. وأصبحت الحياة أشبه بمضمار سباق مهني. لا مشكلة في مشاركة الإنجازات والجانب الوظيفي، لكن أعتقد المبالغة في ذلك ساهمت بتضخيم تأثير عقلية السباق. هل منطقي أن نتبع التهنئة بالمناسبة الدينية أو الإجتماعية بالمسمى الوظيفي؟ شخصياً لا أعتقد. ولكن ربما أُبالغ بتحفظي هنا.
5
هل المشكلة مجتمعية (خارجية) أم فردية (داخلية)؟
يمكن تقسيم الحلول التي كتب عنها المُختصين إلى قسمين: الأول مبني على فكرة أن أسباب الاحتراق الوظيفي خارجية. بسبب المجمتع وضغوطاته، النظام الرأس مالي، العائلة والمجموعات الإجتماعية المختلفة.. الخ.
القسم الثاني من الحلول مبني على فكرة أن أسباب الاحتراق الوظيفي داخلية. الأهداف المتجددة، عدم قدرتنا على الإقتناع بما نمتلك. مفهوم الـ Hedonic Treadmill (سيتم نقاشه لاحقاً).. وبناءً على ذلك اختلفت الحلول.
6
معرفة المشكلة والوعي بها هي أول، وربما أهم، خطوة. والحلول تختلف حسب جذور المشكلة وأسبابها سواءً كانت داخلية أم خارجية. بالتالي لن تستطيع الحصول على حل واحد يناسب الجميع. مثلاً، قد تكون أسباب مرور أحد الأشخاص بالاحتراق الوظيفي هي محاولة التعويض عن جانب أخر في حياته.. وهنا الحلول غالباً ستكون مختلفة عن شخص الأسباب خلف شعوره بالاحتراق الوظيفي هو الحاجة الماسة للراتب الذي بالكاد يغطي مصاريفه اليومية. بالنسبة لهذا الشخص أغلب هذه المقالة ومشاكلها مجرد رفاهية و”دلع زايد!”. luxury issues.
لذلك لا أعتقد وجود حل واحد لمشكل متعددة الأوجه مثل مشكلة الإحتراق الوظيفي. ولكن توجد طريقة عمل أو تفكير قد تساعد في إعادة تعريفنا لعلاقتنا بالعمل، وزيادة فرصة حصولنا على العمل الذي يساعدنا في الحصول على علاقة جميلة وسعيدة مع هذا الجانب الهام من حياتنا. طريقة العمل هذه تعتمد على التالي:
7
توقف عن تطوير جودة حياتك مع كل زيادة في راتبك!
يؤمن نافال بأهمية التوقف عن الرغبة بالتطوير المستمر لبعض جوانب حياته، خصوصاً المتعلقة بالإستهلاك. يعتقد نافال بأن الأشخاص المشغولين بتطوير وترقية أسلوب حياتهم بشكل مستمر -ومع كل زيادة في الدخل- لا يستطيعوا إستيعاب الراحة التي يشعر بها الأشخاص القنوعين والذين توقفوا عن الرغبة الجامحة في تطوير جودة حياتهم بشكل مُستمر.
وفي كتاب سيكولوجية النقود الذي إنتشر بشكل كبير مؤخراً، تحدث الكاتب مورجان هاوسيل عن جميع المواضيع التي تتوقع أن تقرأ عنها في كتب الإستثمار والإدارة المالية: العائد المركب، أهمية تنويع الإستثمارات، التعامل النفسي مع المال،.. الخ. ولكن في نهاية الكتاب، في فصل مخصص للنصائح التي طبقها الكاتب شخصياً، تحدث عن موضوع ذو صلة بالإحتراق الوظيفي، تحديداً عن أهمية التوقف عن تطوير حياتك عند مستوى معين ومقبول.
يعتقد مورجان هاوسيل أن أحد أهم القرارات التي اتخذها مع زوجته هي التوقف عن محاولة زيادة جودة حياتهم بشكل مستمر. من خلال الاستمتاع بالمشي، القراءة، والقناعة بالمنزل الذي يمتلكه والسيارة التي يقودها، استطاع مورجان أن يزيد من معدل التوفير الشهري مما جعله يمتلك الحرية المالية والقدرة على مواجهة الظروف بشكل أفضل.
هذا المفهوم النفسي ليس بجديد، وذكره الكاتب من الأساس، فكرة “تكيٌف المُتعة” Hedonic Treadmill والتي تنص على أننا نتعود على الأشياء (النعم) بشكل سريع. السيارة الجديدة لها تأثير إيجابي كبير على جودة حياتنا وسعادتنا في الأيام/الأسابيع/الأشهر الأولى، وسرعان ما تختفي وسط الأشياء التي إعتدنا عليها في يومنا وتأثيرها على سعادتنا ينخفض بشكل كبير.
علاقة هذا المفهوم بالإحتراق الوظيفي كبيرة، خصوصاً إذا ما أتفقنا على أن جزء من الاحتراق الوظيفي هي عقلية السباق، و الضغوطات النفسية التي نمر بها لتطوير حياتنا بشكل مستمر، واللحاق بالآخرين ومشاركة تجاربهم التي نشاهدها في انستجرام وغيرها من منصات التواصل الإجتماعي.
يعتقد هاوسيل أن جزء كبير من مشكلة عقلية السباق، هي محاولة اللحاق بالآخرين والسماح للمجتمع بتحديد معايير النجاح وكيف يجب أن تكون حياتك في كل مرحلة جديدة تدخلها من النجاح المهني والمالي. في المقابل، الإستقلالية حسب تعريفه هي: “القيام بعمل ما تحب، مع من تحب، في الأوقات التي تحبها، طوال المدة التي ترغب بها.” هكذا تعلم أنك حققت الحرية المالية، وأصبحت مُستقل في قراراتك بعيداً عن ضغوطات المجتمع.
ولتحقيق درجة من الإستقلالية، يضيف هاوسيل “لست بحاجة إلى راتب طبيب، ولكن إلى إدارة توقعاتك بشكل جيّد وأن تعيش أقل من قدرتك المالية. وإدارة التوقعات -بعد درجة معينة من الدخل- تعتمد على سيطرتك على توقعاتك تجاه كيف يجب أن تكون حياتك.”
ولتحقيق ذلك ستواجهك معضلة نفسية تتعلق بمحاولة اللحاق بالآخرين FOMO والخوف من “فقدان” التجارب التي يعيشها الأخرين ويُشاركونها على انستجرام. التخلي عن محاولة اللحاق بهم والحصول على نفس التجارب يساعدك في تجنب ضغوطات نفسية أنت في غنى عنها. ستلاحظ أن رتم الأيام أصبح أبطأ، وأيامك أصبحت أكثر هدوءاً.
الكاتب نسيم طالب يفسر هذه الحالة: “النجاح الحقيقي هو مغادرة سباق الفئران وتصميم تجاربك بطريقة تدعم شيء واحد فقط: راحة البال”
8
تبنّي الإنتاجية البطيئة!
في آخر كتب كال نيوبورت، “الإنتاجية البطيئة”، فنَّد الكاتب أبرز أسباب الإحتراق الوظيفي تحت ما يُسمى بالإنتاجية الكاذبة pseudo productivity. بسببها أصبحنا اليوم تحت ضغط إجتماعي على أن نبدو مشغولين طوال الوقت، ندخل في سباق وهمي مع الآخرين عبر منصات مثل لينكد إن المليئة بمحاولة الإستعراض المُستمر بإنجازات أغلبها فارغة.
يمكن وصف الإنتاجية الكاذبة في ثلاثة عوامل:
1- الإنتاجية تعني الإنجاز بشكل أسرع. بمعنى تسليم العمل بأسرع وقت ممكن مثل الرد على رسائل البريد الإلكتروني بشكل فوري. رتم العمل يجب أن يكون أسرع بكل إختصار.
2- الإنتاجية تعني العمل على أكثر من شيء في نفس الوقت.
3- أن تبدو مشغولاً طوال الوقت. الإنشغال الدائم يعني أنك موظف عالي الإنتاجية.
في المقابل، الحل يكمن في تبني أسلوب الإنتاجية البطيئة وهي فكرة تقوم على ثلاثة أُسس: العمل على أمور أقل، العمل بنسق طبيعي ورتم أبطأ، وأخيراً الهوس بجودة العمل والإهتمام بأدق التفاصيل.
- القيام بأمور أقل يعني التخلي عن كل ما من شأنه تشتيت تركيزنا عن الأمور الأهم التي غالباً نتجنب العمل عليها لسنوات. ومحاولة التخلي عن العمل على أكثر من شيء في نفس الوقت multitasking وبدلاً من ذلك، نعمل على شيء واحد لفترة طويلة monotasking.
- التركيز على شيء واحد ولفترة طويلة، وتقليل المهام التي تقع تحت مسؤووليتنا خلال فترات قصيرة تساعد في العمل بنسق طبيعي. بالإضافة إلى ذلك، تجنب الإستعجال والتركيز على الجودة أكثر من الكمية.
- الهوس بالتفاصيل الصغيرة: الإتقان في العمل، حتى وإن كان الثمن وقت أطول لإنجاز المهام. لأن أغلب الأعمال العظيمة تتطلب وقت وهذا المنطقي والطبيعي.
تحفظي الوحيد على الحلول المُقترحة في الكتاب أنه يعتمد وبشكل كبير على أمور غالباً خارج سيطرة الفرد. المدراء، ومن فوقهم المنظمات، هم الذين يحددوا موعد التسليم، وكمية العمل المطلوب إنجازها. وهي نقطة أنهى بها كال نيوبورت الكتاب وتحدث عن أهمية تقبل حركة “الإنتاجية البطيئة” من قبل الجميع، منظمات وأفراد، حتى تُحقق النجاح المطلوب.
ولدعم هذه الفكرة، تحدث نيوبورت عن بداية إنتشار فكرة الإنتاجية البطيئة في الولايات المُتحدة تحديداً أثناء عودة الموظفين إلى مكاتبهم بعد جائحة كورونا. حينها واجهت الشركات مقاومة من الموظفين، خصوصاً الأصغر سناً عن طريق الإستقالة الصامتة وغيرها من الحركات الإجتماعية التي توضح رفضهم لأسلوب وقوانين العمل التي تم تصميمها فترة الثورة الصناعية. والعديد من الشركات قدمت حلول وسط للموظفين، مثل العمل عن بعد لأيام محددة، وتقليل أيام العمل الأسبوعية من الأساس. مثال محلي مناسب لهذه الفكرة هو إعلان شركة لوسيديا تقليل أيام العمل إلى أربعة أيام في الأسبوع، براتب كامل.
وحركة الإنتاجية البطيئة ليست بفكرة جديدة. في بداية الثمانينات ميلادية إنتشرت حركة في أوروبا تدعو إلى تقليل سرعة الحياة. يصف الصحفي كارل أونريه في كتابه “في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة”، مقاومة الأوروبين لإفتتاح أحد أفرع مطعم الوجبات السريعة ماكدونالدز في منقطة تاريخية في مدينة روما الإيطالية. لم يتقبل الأوروبيين فكرة الأكل السريع وقتها. في المقابل، طالب المحتجين التأني في الطعام، وأهمية هذه الثقافة بالنسبة لهم كإيطاليين. وإنتقلت هذه الحركة إلى جوانب أخرى من الحياة بجانب الأكل مثل التأني في العلاج والسفر. وبشكل طبيعي إنتقلت إلى التأني في العمل. وهي الفكرة الأساسية في كتاب كارل نيوبورت “الإنتاجية البطيئة.” جميع هذه الأفكار يجمعها شيء واحد: رفض العمل لساعات طويلة لزيادة الإنتاجية العامة للشركة أو المنظمة مقابل التضحية بأيام، أسابيع وربما سنوات من عمرنا في سباق الفئران.
وتحدث أونريه عن مجهودات كبيرة في فرنسا من نهاية التسعينات حتى بداية الألفية سعت إلى تقليص ساعات العمل، والعديد من الدول سعت كذلك إلى دعم هذه الرغبة الجماعية للموظفين بتقليل ساعات العمل. لكن لا أعتقد شخصياً يوجد مثل هذه الأفكار إلا في أوروبا. وأؤمن بمقولة “في أمريكا يعيشوا كي يعملوا، وفي أوروبا يعملوا كي يعيشوا.” و”السيستا” دليلاً على ثقافة الإسترخاء المُتأصلة لدى الأوروبيين.
النهاية
بشكل عام يمكن إختصار جميع ما سبق في فكرة واحدة: أهمية وقيمة التأني في الحياة. الأشياء العظيمة والتغييرات الكبيرة بحاجة إلى وقت. أنت أسير لجميع قراراتك وظروفك التي تشكلت لسنوات، وجميع الخيارات المُتاحة لك اليوم هي نتيجة لجميع قراراتك آخر خمسة سنوات من حياتك. من الصعب أن تخرج من هذه الحالة فقط لأنك ترغب بذلك. في المقابل، من الممكن أن تعمل اليوم لفرص وخيارات أفضل بعد عدة سنوات. من خلال التخطيط بإطار زمني طويل (خمسة سنوات بدلاً من سنة). بهذه الطريقة تُصبح الخيارات المُتاحة أمامك أكبر، ورتم الأيام سيكون أبطأ وأهدأ. صحتك الذهنية تستحق هذا الهدوء في العمل.
وفي هذا السياق، يوجد عامل أساسي لم أغفل عنه أثناء كتابة هذه التدوينة: المدير (السيء). أعلم ومن واقع تجربة سابقة، وتجارب للعديد من الأصدقاء وأفراد العائلة، أن وجود مدير سيء لديك قد يكون السبب الوحيد في مرورك للإحتراق الوظيفي. أتمنى لو يوجد حل واحد يُساعد في تجاوز هذه المشكلة بإستثناء ترك الوظيفة. خصوصاً إذا ما كان تواجد هذا المدير مستمر. لا أعتقد الحل يكمن في نصيحة من نوعية “طرق التعامل مع المدير السيء” ولا حلول نفسية للتعايش مع شخص قد يعاني من أمراض وعُقد نفسية بكل تأكيد ستؤثر في حياتك وبشكل كبير. شاهدت العديد من الأصدقاء المُبدعين، عبر الأشهر والسنوات ينطفي حماسهم، ويتحول نفس الشخص من شعلة نشاط وتفاؤل وأحاديث لا تتوقف عن العمل إلى شخص ناقم. السبب الرئيسي هو المدير المباشر السيء.
بجانب نصيحة مورجان هاوسيل المُتعلقة بـ “الحرية المالية”، أضيف نصيحة العمل في إطار زمني منطقي يسمح لك بالخروج. لا يوجد حل أخر غير تقديم الإستقالة -أثناء الجاهزية ووجود عرض أخر- غيرها.. مافي حل. إلى ما تُصبح العروض جاهزة وجيّدة، إعمل على “خطة الهروب.”
وأتمنى ألا يعتقد البعض بأن هذه النصائح فيها أي تقليل من أهمية الوظيفة والعمل. أؤمن شخصياً أن العمل من أهم جوانب الحياة التي أستمد منها تعريفي لنفسي، ويُضيف معنى حقيقي لحياتي. لكن علاقتنا مع العمل يجب أن يتم إعادة تعريفها. و إعادة النظر إلى تعريفنا للإنجازات. حتى من منظور إنتاجي بحت، السعادة هي ميزة تنافسية لصالحك في العمل. موظيف سعيد يعمل لساعتين إنتاجيته الحقيقية ستكون أعلى من موظف ناقم مجبور أنه يبقى لساعات في المكتب قبل “ما يدق الكرت ويمشي.”
في عالم الأعمال، نادراً ما يكون الحل الأسهل هو الحل الأكفأ. وهنا، الحل الأسهل هو الإستمرار بزيادة كمية الأعمال المطلوب إنجازها يومياً، الإستمرار بالإنشغال الدائم، الإستمرار بقياس النجاح عن طريق كمية التحديثات التي نضعها في مواقع التواصل.
في المقابل، من الممكن أن المطلوب حالياً هو إعادة النظر في علاقتنا مع هذا الجانب الهام من حياتنا، ومحاولة تقديم حلول قد تبدو للوهلة الأولى صعبة ومُزعجة ولكنها الخيار الوحيد أمامنا في هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها في المملكة.
من كان آمنً في سربه، معافاً في بدنه، لديه قوت يومه، فكأنما حُيزت له الدنيا بما فيها. من فهمي القاصر لهذا الحديث أعلم بأن تقدير أبسط النعم هو أسلوب حياة لا يتعارض مع الطموح والعمل والإنجازات، والإمتنان هو العلاج أمام كثير من المشاكل النفسية المعاصرة، خصوصاً تلك المُتعلقة بالعمل والإحتراق الوظيفي.